الإحساس هو عتبة الإدراك أو أول درجات المعرفة التي يمكن أن نقرأها يومياً من الطفولة إلى الشيخوخة. يفترض الاتجاه التجريبي الكلاسيكي (من بيكون حتى ديفد هيوم) أن الحواس نوافذ الفكر، فالعقل صفحة بيضاء يتلقى مدركاته من احساساته التجريبية. فالانعكاسات الحسية للأشياء المحيطة بنا على احساساتنا هي التي تحفز معانيها أو فكرات التجربة الحسية. وبهذا يمكننا أن نرى الإدراك الحسي على أنه تركيب قطبي للإحساس والتأمل اللذين يشكلان مصدر فكراتنا. لقد افترض (جون لوك) مؤسس التجريبية المعرفية أن أفكارنا تنتج عن مصدرين مباشر وغير مباشر. يعد المصدر المباشر هو الأساس ويأتي من الحضور الحسي المباشر للأشياء على الإحساس الذي يولد أفكار الإحساس أو معاني التجربة الحسية. أما المصدر غير المباشر فيرجع إلى عملية التفكر أو النشاط الباطني للنفس. يعد الإدراك الحسي بعناصره المشار إليها مادة تكوينية للمعرفة لا للمعرفة بذاتها أو هو الفكرات البسيطة. ولكي تصبح هذه الفكرات البسيطة مركبة فترتفع إلى مستوى المعرفة يجب أن تخضع لتحولات منهجية مرتبطة بقدرة النفس على المقارنة والتركيب والتجريد. أما (ديفد هيوم) فيرى أن الطبيعة الإنسانية تتميز بملكة الفهم التي هي قوام العقل. والعقل عبارة عن إدراكات حسية لا مباشرة تنشأ من انطباعاتنا الحسية وصورها الذهنية أو خواطرنا عنها. وخواطرنا هي نسخ باهتة ميتة عن الانطباعات الحية النابضة التي ترتكز على حزمة الأحساسيس. بذلك يعد الانطباع الحسي أول مراحل الإدراك الحسي. ويتحدث (هيوم) عن ثلاث علاقات ترابطية تصنع مجال الإدراك هي علاقة التشابه، وعلاقة التجاوز زمانياً ومكانياً، وعلاقة السبيبة. وهي علاقات تصنع عندنا التجربة التي تفضي إلى بناء المعرفة الذاتية
من الناحية الحسية يمتلك الإنسان مقدرة إدراك الشيء والدراية به عبر تصنيفه وتسميته وتقريبه إلى أشكال وصور معروفة ومن ثمَّ تقويمه وتكييفه ليصبح جزءاً من البيئة الحسية المدركة. كما أن القيم تتكون من عادات شخصية وتقاليد وأعراف تندرج من القوة إلى الضعف وترتبط بزمان ومكان محددين ومعتقدات غالباً ما تشكل القيم الجوهرية لجماعة ما وهذه القيم لديها القدرة على الاستمرار عبر الزمن.
ومن الناحية الشكلية هناك إطاران يحكمان قدرتنا على معرفة الأشكال وتمييزها بعضها عن بعض، الإطار الأول ظاهري وهو المسؤول عن قدرتنا على التعرف على الأشكال ظاهرياً أي تميز أي شكل عن آخر والثاني إطار ضمني، يمكننا من تمييز الأشكال في صورتها الوحدوية. وفي اعتقادي أن هذين البعدين غالباً ما يحتدمان داخلنا عندما نقوّم العالم من حولنا. فعندما نغوص في عقل الطفل ونحاول أن نبحث في كيفية تشكل القيم لديه سوف نجد «صراعات» غير محسسة تغلب قيمة على أخرى، ولعلنا في هذا الوقت خصوصاً نحتاج أن نبحث في كيفية تغليب «القيم النبيلة» البناءة في نفوس أبنائنا. انها إشكالية يصعب وضع مسارات محددة وأكيدة لها لكنها غير مستحيلة.
الآليات العصبية التي تتدخل في عملية الإدراك
رأى أرسطو أن القلب يحتل مركز العقل. وأعطى ديكارت أهمية كبيرة للغدة الصنوبرية. أما وقد تم الكشف عن البنية المجهرية للدماغ بواسطة التقنيات النسيجية المعقدة والمجهر الإلكتروني فيمكن التأكيد على أن الدماغ يمتلك، بلا شك، البنية المناسبة ليكون المرتكز المادي لكل عملية فكرية. وبالطبع لم يتأكد هذا الكشف بالدليل القاطع، وما زال يعتمد على قدرة محدودة جداً على الرصد والملاحظة، يحييهما غالباً تصور وخيال لا حدود لهما.
يُعدُّ القشر الدماغي البنية الأساسية للدماغ؛ فهو يشكل الطبقة السطحية المغلِّفة لخلايا عصبية مجتمعة بكثافة، يُقدَّر عددها بحوالي 10 آلاف مليون خلية. والخلايا العصبية واحدات حية فردية تنقسم إلى عدة أنواع؛ وتتصل كل خلية بالأخرى بواسطة نقاط خاصة تسمى نقاط التساقي synapses. وتتلقى كل خلية عصبية عدة آلاف من الاتصالات بأغصان تنشأ من خلايا عصبية أخرى. وتؤثر كل خلية، بدورها، على عدة مئات أو آلاف الخلايا العصبية الأخرى. وهكذا يمكن تمثيل القشر الدماغي بشبكة هاتفية، حيث تتلقى كل خلية عصبية رسائل من مئات الخلايا العصبية الأخرى (تلاقي convergence) وتقوم، بدورها، بتزويد الخلايا الأخرى (تشعُّب divergence).
وإذا كان علينا أن نرسم تخطيطاً هندسياً لهذه البنية فلن يكون ذلك ممكناً بواسطة الأبعاد التقليدية الثنائية أو الثلاثية، بل بعدد متغير من الأبعاد قد يصل إلى المئات. وقد يشكِّل مثل هذا العدد – عدد التلاقي أو التشعُّب – تحدياً كبيراً للهندسة المتعددة الأبعاد.
يوجد في القشر الدماغي نوعان من التساقيات: تساقيات منبِّهة excitory وتساقيات مثبِّطة inhibitory. وفي هذا التعقيد الخلوي الواسع المتعدد الأبعاد تشكِّل كل خلية عصبية موضوعاً لرسائل التساقيات المنبِّهة والمثبِّطة بحيث تكون أجوبةُ الخلايا الحاصلَ الصافي للتأثير المحدَث عليها (فرق التأثير). ويُقدَّر الوقت الأساسي الضروري لعمل خلية عصبية بـ 0,001 من الثانية للخلايا ذات المحاور الأسطوانية القصيرة. وهذا يمثل الوقت الكلِّي بين تلقِّي التنبيه الذي يطلق نزع الاستقطاب depolarization من على إحدى نقاط التساقي وبين وصوله إلى نقاط التساقي على الخلايا العصبية الأخرى. ويؤدي نشوء الاستقطاب في مجموعة من الخلايا العصبية إلى انتشاره السريع إلى ملايين الخلايا في أجزاء الألف من الثانية. ولكن نقاط التساقي المثبِّطة تكبح هذا الانتشار الانفجاري الخطير. وحتى الآن لم يتم تصوُّر وفهم طريقة العمل العصبي الذي يتضمن نشاط عشرات الملايين من العصبونات neurons في القشر الدماغي, ذلك النشاط الذي ينشأ أثناء كل أنواع التجارب الإدراكية، كالذكريات والأفكار والنوايا. وقد أضاءت الدراساتُ المنصبَّة على الطريقة التي يستعلم بها الدماغ عما يجري في العالمين الخارجي والداخلي عمليةَ الإبصار بكثير من النجاح: تصل موجات إلكترومغناطيسية من 400-700 ميليميكرون إلى الشبكية لإعطاء تنبيهات على مسار ألياف العصب البصري، فتجتاز السيالة الكهربية ألياف العصب البصري، وتنتقل المعلومات من الشبكية إلى القشر البصري بشكل مُرمَّز من خلال تردد النبض في الليف العصبي والعلاقة الطوبوغرافية بين المنشأ الشبكي والنهايات القشرية.
يعتقد بعضهم، علماء وفلاسفة، أن الأحداث العصبية هي الشرط الضروري الوحيد والكافي لعملية الإدراك. بكلمات أخرى نقول: ليس ثمة انفصال بين التجربة النفسية والأحداث العصبية. وتسمى هذه النظرية الفيزيائية بفرضية التماثل أو التطابق identity hypothesis. ومما لا شك فيه أن الأحداث العصبية المنتقلة من الشبكية إلى التنبيهات العصبية المعقدة في القشر الدماغي تحمل المعلومات الضرورية لعملية الإدراك على نحو مُرمَّز. وهذا شرط ضروري لعملية الإدراك. ولكن فرضية التطابق التي تعتبره الشرط الكافي تستعمل طريقة بارعة لتغطية المأزق الهام الذي يتطلب تفسير كيفية تحوُّل هذه المعلومات المرمَّزة إلى صور وألوان وأسماء مؤدية إلى ردود وأفعال إرادية... على هذا الأساس نعترف بأن فعل الإدراك لا ينشأ بمجرد تفعيل القشر الدماغي، رغم اعتباره فعلاً ضرورياً على طريق توليد فعالية أعلى تتعلق مباشرة بالوعي.
وقد ظهر أن هذه المراحل الأولى من التفعيل لا تعيقها أو توقفها عمليات التخدير العميقة نسبياً، وذلك بحسب ما ظهر من خلال الاستجابة الكهربائية للقشر (جاسبر، 1966). إضافة إلى ذلك فقد اتضح أن وميض الضوء يتطلب على الأقل 0,2 من الثانية من النشاط الدماغي قبل حصول عملية الإدراك (تجارب كروفورد، 1927). ومن أفضل التجارب التي أجريت لدراسة ظاهرة الفترة الزمنية السابقة للإدراك، هي تلك التي قام بها ليبت وزملاؤه على القسم الحسَّاس من القشر الدماغي للتنبيهات السطحية على الجسم. وقد وجدوا، بعد توافر شروط عتبة التنبيه كلِّها، ضرورة انقضاء نصف ثانية على الأقل قبل بدء الإحساس بالتجربة.
حالات الوعي
تسمح هذه اللمحة عن الفعالية العصبية لتجربة الإدراك باستبعاد أية أفكار تبسيطية لما تذهب إليه فرضية التماثل التي تدَّعي بأن مجرد وجود الفعالية العصبية في القشر الدماغي يعني الإدراك. والحق أنه يجب علينا، أولاً وقبل كل شيء، التذكير بوجود فعالية عصبية واسعة في القشر الدماغي عند المرء الصاحي، حتى في غياب الواردات الحسية. وتشير التجارب إلى وجود فعالية عصبية في القشر الدماغي أثناء النوم تتفعَّل وتتضخم خلال فترات الأحلام. ومع هذا نعلم أن فترة من الوقت ضرورية للانتقال عبر نقاط التساقي المختلفة، وتوليد الفعالية العصبية قبل ظهور فعل الإدراك. وأخيراً يجب أن نعرف أن الانتباه مطلوب لتسجيل خبرة واعية، وأن جزءاً صغيراً من التعقيد العصبي يدخل في التجربة، الأمر الذي يجنِّبنا الشواش الضخم الذي يمكن أن يحصل إذا تداخلت في عملية الإدراك كل الفعالية الدماغية الممكنة في أي وقت.
وعلى نحو مباشر, يفيدنا تفحُّص طبيعة عملية الإدراك أيضاً بأنها متعددة الوجوه؛ إذ لا ندرك في حقلنا البصري العلاقات بين الأشياء فحسب، بل ندرك أيضاً درجة إضاءتها وألوانها... وهذا لأن اللون معلومة مرمَّزة ترميزاً خاصاً، ومشتقة مما يَرِد إلى الشبكية التي تمتلك مستقبلات ضوئية خاصة للَّونين الأحمر والأخضر.
من خلال هذه الخصوصية التي تتميز بها عملية النقل تصل المعلومات إلى البنى الدماغية القشرية حيث ينشأ إدراك اللون. وفي الواقع، يجب الاعتراف بأن اللون ينشأ في الصورة كخبرة مشتقة من بعض الأنماط المرمَّزة ترميزاً خاصاً. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج التالي: لا يوجد لون في العالم الموضوعي. وهكذا يمكننا تعميم الأحكام ذاتها على الحواس الأخرى فنقول: لا يوجد صوت أو أصوات تتميز بصفات في العالم الخارجي... وعلى غير ذلك، توجد أنماط خاصة من الفعَّالية العصبية تتحول إلى تجربة إدراكية كحصيلة إبداعية كلِّية.
نخلص من هنا إلى النتيجة البسيطة التالية: إننا نملك كل ما يمكن تخيله من تعقيد للعمليات العصبية الدماغية – هذا التعقيد الذي يتسامى فوق أي تقدير إنساني. فكما يقول شرِّنغتون: "تختلف التجارب الإدراكية عن أية آلية دماغية. والحق أن الآليات الدماغية ضرورية لعملية الإدراك لكنها ليست بالضرورة شرطاً كافياً. إن أكثر العمليات الدماغية تعقيداً تحدث ضمن العالم المادي... وفوق هذا المستوى يوجد عالم العقل، عالم التجربة الإدراكية، أو، كما يسميه تيار دو شاردان، النوسفير Noosphere."
ينتمي الاعتقاد بوجود عالم مستقل لحالات الوعي – عالم أشار إليه كل من ويغنر وبوبِّر وشرودنغر – إلى تاريخ يزخر بالأفكار. فقد تحدث ديكارت عن ثنائية العقل والمادة؛ وأشار إلى أن الإدراك ينشأ من الإشارات التي تنقلها الحواس إلى الدماغ، وأن العقل قادر أن يلعب دوراً في التأثير على العالم الخارجي. وتُفسِّر العبارة الأخيرة حقيقة الفعل الإرادي والاختيار الحر.
[justify]من الناحية الحسية يمتلك الإنسان مقدرة إدراك الشيء والدراية به عبر تصنيفه وتسميته وتقريبه إلى أشكال وصور معروفة ومن ثمَّ تقويمه وتكييفه ليصبح جزءاً من البيئة الحسية المدركة. كما أن القيم تتكون من عادات شخصية وتقاليد وأعراف تندرج من القوة إلى الضعف وترتبط بزمان ومكان محددين ومعتقدات غالباً ما تشكل القيم الجوهرية لجماعة ما وهذه القيم لديها القدرة على الاستمرار عبر الزمن.
ومن الناحية الشكلية هناك إطاران يحكمان قدرتنا على معرفة الأشكال وتمييزها بعضها عن بعض، الإطار الأول ظاهري وهو المسؤول عن قدرتنا على التعرف على الأشكال ظاهرياً أي تميز أي شكل عن آخر والثاني إطار ضمني، يمكننا من تمييز الأشكال في صورتها الوحدوية. وفي اعتقادي أن هذين البعدين غالباً ما يحتدمان داخلنا عندما نقوّم العالم من حولنا. فعندما نغوص في عقل الطفل ونحاول أن نبحث في كيفية تشكل القيم لديه سوف نجد «صراعات» غير محسسة تغلب قيمة على أخرى، ولعلنا في هذا الوقت خصوصاً نحتاج أن نبحث في كيفية تغليب «القيم النبيلة» البناءة في نفوس أبنائنا. انها إشكالية يصعب وضع مسارات محددة وأكيدة لها لكنها غير مستحيلة.
الآليات العصبية التي تتدخل في عملية الإدراك
رأى أرسطو أن القلب يحتل مركز العقل. وأعطى ديكارت أهمية كبيرة للغدة الصنوبرية. أما وقد تم الكشف عن البنية المجهرية للدماغ بواسطة التقنيات النسيجية المعقدة والمجهر الإلكتروني فيمكن التأكيد على أن الدماغ يمتلك، بلا شك، البنية المناسبة ليكون المرتكز المادي لكل عملية فكرية. وبالطبع لم يتأكد هذا الكشف بالدليل القاطع، وما زال يعتمد على قدرة محدودة جداً على الرصد والملاحظة، يحييهما غالباً تصور وخيال لا حدود لهما.
يُعدُّ القشر الدماغي البنية الأساسية للدماغ؛ فهو يشكل الطبقة السطحية المغلِّفة لخلايا عصبية مجتمعة بكثافة، يُقدَّر عددها بحوالي 10 آلاف مليون خلية. والخلايا العصبية واحدات حية فردية تنقسم إلى عدة أنواع؛ وتتصل كل خلية بالأخرى بواسطة نقاط خاصة تسمى نقاط التساقي synapses. وتتلقى كل خلية عصبية عدة آلاف من الاتصالات بأغصان تنشأ من خلايا عصبية أخرى. وتؤثر كل خلية، بدورها، على عدة مئات أو آلاف الخلايا العصبية الأخرى. وهكذا يمكن تمثيل القشر الدماغي بشبكة هاتفية، حيث تتلقى كل خلية عصبية رسائل من مئات الخلايا العصبية الأخرى (تلاقي convergence) وتقوم، بدورها، بتزويد الخلايا الأخرى (تشعُّب divergence).
وإذا كان علينا أن نرسم تخطيطاً هندسياً لهذه البنية فلن يكون ذلك ممكناً بواسطة الأبعاد التقليدية الثنائية أو الثلاثية، بل بعدد متغير من الأبعاد قد يصل إلى المئات. وقد يشكِّل مثل هذا العدد – عدد التلاقي أو التشعُّب – تحدياً كبيراً للهندسة المتعددة الأبعاد.
يوجد في القشر الدماغي نوعان من التساقيات: تساقيات منبِّهة excitory وتساقيات مثبِّطة inhibitory. وفي هذا التعقيد الخلوي الواسع المتعدد الأبعاد تشكِّل كل خلية عصبية موضوعاً لرسائل التساقيات المنبِّهة والمثبِّطة بحيث تكون أجوبةُ الخلايا الحاصلَ الصافي للتأثير المحدَث عليها (فرق التأثير). ويُقدَّر الوقت الأساسي الضروري لعمل خلية عصبية بـ 0,001 من الثانية للخلايا ذات المحاور الأسطوانية القصيرة. وهذا يمثل الوقت الكلِّي بين تلقِّي التنبيه الذي يطلق نزع الاستقطاب depolarization من على إحدى نقاط التساقي وبين وصوله إلى نقاط التساقي على الخلايا العصبية الأخرى. ويؤدي نشوء الاستقطاب في مجموعة من الخلايا العصبية إلى انتشاره السريع إلى ملايين الخلايا في أجزاء الألف من الثانية. ولكن نقاط التساقي المثبِّطة تكبح هذا الانتشار الانفجاري الخطير. وحتى الآن لم يتم تصوُّر وفهم طريقة العمل العصبي الذي يتضمن نشاط عشرات الملايين من العصبونات neurons في القشر الدماغي, ذلك النشاط الذي ينشأ أثناء كل أنواع التجارب الإدراكية، كالذكريات والأفكار والنوايا. وقد أضاءت الدراساتُ المنصبَّة على الطريقة التي يستعلم بها الدماغ عما يجري في العالمين الخارجي والداخلي عمليةَ الإبصار بكثير من النجاح: تصل موجات إلكترومغناطيسية من 400-700 ميليميكرون إلى الشبكية لإعطاء تنبيهات على مسار ألياف العصب البصري، فتجتاز السيالة الكهربية ألياف العصب البصري، وتنتقل المعلومات من الشبكية إلى القشر البصري بشكل مُرمَّز من خلال تردد النبض في الليف العصبي والعلاقة الطوبوغرافية بين المنشأ الشبكي والنهايات القشرية.
يعتقد بعضهم، علماء وفلاسفة، أن الأحداث العصبية هي الشرط الضروري الوحيد والكافي لعملية الإدراك. بكلمات أخرى نقول: ليس ثمة انفصال بين التجربة النفسية والأحداث العصبية. وتسمى هذه النظرية الفيزيائية بفرضية التماثل أو التطابق identity hypothesis. ومما لا شك فيه أن الأحداث العصبية المنتقلة من الشبكية إلى التنبيهات العصبية المعقدة في القشر الدماغي تحمل المعلومات الضرورية لعملية الإدراك على نحو مُرمَّز. وهذا شرط ضروري لعملية الإدراك. ولكن فرضية التطابق التي تعتبره الشرط الكافي تستعمل طريقة بارعة لتغطية المأزق الهام الذي يتطلب تفسير كيفية تحوُّل هذه المعلومات المرمَّزة إلى صور وألوان وأسماء مؤدية إلى ردود وأفعال إرادية... على هذا الأساس نعترف بأن فعل الإدراك لا ينشأ بمجرد تفعيل القشر الدماغي، رغم اعتباره فعلاً ضرورياً على طريق توليد فعالية أعلى تتعلق مباشرة بالوعي.
وقد ظهر أن هذه المراحل الأولى من التفعيل لا تعيقها أو توقفها عمليات التخدير العميقة نسبياً، وذلك بحسب ما ظهر من خلال الاستجابة الكهربائية للقشر (جاسبر، 1966). إضافة إلى ذلك فقد اتضح أن وميض الضوء يتطلب على الأقل 0,2 من الثانية من النشاط الدماغي قبل حصول عملية الإدراك (تجارب كروفورد، 1927). ومن أفضل التجارب التي أجريت لدراسة ظاهرة الفترة الزمنية السابقة للإدراك، هي تلك التي قام بها ليبت وزملاؤه على القسم الحسَّاس من القشر الدماغي للتنبيهات السطحية على الجسم. وقد وجدوا، بعد توافر شروط عتبة التنبيه كلِّها، ضرورة انقضاء نصف ثانية على الأقل قبل بدء الإحساس بالتجربة.
حالات الوعي
تسمح هذه اللمحة عن الفعالية العصبية لتجربة الإدراك باستبعاد أية أفكار تبسيطية لما تذهب إليه فرضية التماثل التي تدَّعي بأن مجرد وجود الفعالية العصبية في القشر الدماغي يعني الإدراك. والحق أنه يجب علينا، أولاً وقبل كل شيء، التذكير بوجود فعالية عصبية واسعة في القشر الدماغي عند المرء الصاحي، حتى في غياب الواردات الحسية. وتشير التجارب إلى وجود فعالية عصبية في القشر الدماغي أثناء النوم تتفعَّل وتتضخم خلال فترات الأحلام. ومع هذا نعلم أن فترة من الوقت ضرورية للانتقال عبر نقاط التساقي المختلفة، وتوليد الفعالية العصبية قبل ظهور فعل الإدراك. وأخيراً يجب أن نعرف أن الانتباه مطلوب لتسجيل خبرة واعية، وأن جزءاً صغيراً من التعقيد العصبي يدخل في التجربة، الأمر الذي يجنِّبنا الشواش الضخم الذي يمكن أن يحصل إذا تداخلت في عملية الإدراك كل الفعالية الدماغية الممكنة في أي وقت.
وعلى نحو مباشر, يفيدنا تفحُّص طبيعة عملية الإدراك أيضاً بأنها متعددة الوجوه؛ إذ لا ندرك في حقلنا البصري العلاقات بين الأشياء فحسب، بل ندرك أيضاً درجة إضاءتها وألوانها... وهذا لأن اللون معلومة مرمَّزة ترميزاً خاصاً، ومشتقة مما يَرِد إلى الشبكية التي تمتلك مستقبلات ضوئية خاصة للَّونين الأحمر والأخضر.
من خلال هذه الخصوصية التي تتميز بها عملية النقل تصل المعلومات إلى البنى الدماغية القشرية حيث ينشأ إدراك اللون. وفي الواقع، يجب الاعتراف بأن اللون ينشأ في الصورة كخبرة مشتقة من بعض الأنماط المرمَّزة ترميزاً خاصاً. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج التالي: لا يوجد لون في العالم الموضوعي. وهكذا يمكننا تعميم الأحكام ذاتها على الحواس الأخرى فنقول: لا يوجد صوت أو أصوات تتميز بصفات في العالم الخارجي... وعلى غير ذلك، توجد أنماط خاصة من الفعَّالية العصبية تتحول إلى تجربة إدراكية كحصيلة إبداعية كلِّية.
نخلص من هنا إلى النتيجة البسيطة التالية: إننا نملك كل ما يمكن تخيله من تعقيد للعمليات العصبية الدماغية – هذا التعقيد الذي يتسامى فوق أي تقدير إنساني. فكما يقول شرِّنغتون: "تختلف التجارب الإدراكية عن أية آلية دماغية. والحق أن الآليات الدماغية ضرورية لعملية الإدراك لكنها ليست بالضرورة شرطاً كافياً. إن أكثر العمليات الدماغية تعقيداً تحدث ضمن العالم المادي... وفوق هذا المستوى يوجد عالم العقل، عالم التجربة الإدراكية، أو، كما يسميه تيار دو شاردان، النوسفير Noosphere."
ينتمي الاعتقاد بوجود عالم مستقل لحالات الوعي – عالم أشار إليه كل من ويغنر وبوبِّر وشرودنغر – إلى تاريخ يزخر بالأفكار. فقد تحدث ديكارت عن ثنائية العقل والمادة؛ وأشار إلى أن الإدراك ينشأ من الإشارات التي تنقلها الحواس إلى الدماغ، وأن العقل قادر أن يلعب دوراً في التأثير على العالم الخارجي. وتُفسِّر العبارة الأخيرة حقيقة الفعل الإرادي والاختيار الحر.
الإثنين أبريل 20, 2020 1:01 pm من طرف mahmoudb69
» الحب تلك الكلمة المكونة من حرفين
الإثنين أبريل 20, 2020 12:56 pm من طرف mahmoudb69
» قواعد البيانات و ربط جدول بيانات بمشروع دلفي
الأربعاء يوليو 27, 2016 4:34 pm من طرف delphi33
» ملف كل دول إكسال التي تحتاجها لكافة الحسابات الخاصة بالأجور بالوظيف العمومي
السبت أبريل 09, 2016 9:33 am من طرف MAZOUZ24
» السنة أولى رياضيات و إعلام آلي النظام الجديد LMD يشمل دروس، تمارين وحلول
الجمعة أكتوبر 30, 2015 10:35 am من طرف طالبة العلم
» أرجو المساعدة
السبت أكتوبر 24, 2015 1:13 pm من طرف LOTFI_CH
» طلب مساعدة
الأحد أكتوبر 18, 2015 4:35 am من طرف omar embarek
» حمل هذه الملفات فأنت بحاجة اليها
السبت يوليو 11, 2015 5:22 am من طرف جيلالي بلقاسم
» دور الاتصالات الإدارية في تعزيز أداء العاملين في المستشفيات الحكومية والخاصة الإردنية في مدينة إربد
الأحد يونيو 07, 2015 12:54 am من طرف الدكتور رامي محمد طبيشات
» مكتبة مذكرات التخرج لطلاب الإقتصاد حمل بلمسة زر وبروابط مباشرة
الأربعاء مايو 27, 2015 5:57 am من طرف didou17
» تقدير نموذج للتنبؤ بالمبيعات باستخدام السلاسل الزمنية - رسالة ﻤـﺎﺠـﺴﺘـﻴـﺭ
الخميس أبريل 02, 2015 10:06 am من طرف ابودعاء
» (¯`·._) ( 13 كتاب لمــادة الجبر باللغتين العربية و الفرنسية + تمارين محلولة
الثلاثاء مارس 31, 2015 7:47 am من طرف nada
» قسم العلوم الاقتصادية التجارية و التسيير
الأربعاء مارس 11, 2015 12:44 pm من طرف koka.8
» مجموعة كبيرة من مذكرات التخرج لتحميلها مجانا
الأربعاء مارس 04, 2015 8:10 am من طرف koka.8
» تثبيت الباك تراك 4
الجمعة يناير 16, 2015 6:22 am من طرف ابراهيم.